1 / 1
تحقيق - عبدالهادي بن مجنِّي:
رغم أني لا أملك من القرن الماضي إلا رصيد خمسة أعوام فقط، حيث ولدت في عام 1395هـ وليس لدي القدر الكافي من الزمن ليجعل انطباعاتي عن العُرْضِيّة في الماضي ذات قيمة، لكن ملازمتي لوالدي رحمه الله، حيث كان يجيبني بالقليل مما رآه والكثير مما قد سمع، ومجالستي بعد ذلك للعم جابر بن اعلي القرني لفترات طويلة حيث استنزفت كل ما كان يحمله من ذكريات، والعم جابر من مواليد سنة 1327هـ، وهو من الأسماء التي كان لها دور في سير عجلة الحياة في مجتمعه خلال العقود الماضية، وقد تجاوز المائة نسأل الله له حسن الخاتمة، فقد كنت أجتمع معه لغرض الحديث عن عصره، وقد تمتد جلستنا أحياناً إلى أربع أو خمس ساعات أقوم بعدها عند عودتي بتفريغ ما سجّله اللاقط من مشاهداته وانطباعاته على الورق، كانت أكثر الوقائع التي ينقلها لي عن الأوبئة التي كانت تفتك بالناس، وحادثة الموت الجماعي لأهل قريته بسبب المرض الذي حلّ بهم في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي، وأسفه لموت خاله ذلك المصاب الجلل.
كانت الخدمات الطبية بمنطقتي في تلك الفترة في حالة انعدام.
أيضاً كان الجوع في الخمسينيات بالعُرْضِيّة هو بطل الرواية في قصص الأجداد، كانت قصص الكبار مكتظة بالمآسي، والسيرة الذاتية للبؤس الذي كان سيد الموقف في حياة إنسان العُرْضِيّة.
وفي مشهد آخر كانت بيوت قرى العُرْضِيّة في الماضي متقاربة تدل على تآلف حميم، وكانوا يتشاركون في كل شيء، قسوة حياتهم هي من جعلت التعاون سائداً بينهم، لم يكن ذلك الجيل يشعر بالقلق كثيراً، فاهتماماتهم كانت تنتهي بغروب شمس ذلك اليوم، في سنواتي الأولى بقريتي التي لم تزل حية في الذاكرة، عندما يحل الظلام لا يمكن التنقل في شوارع القرية، فلم يكن التيار الكهربائي قد وصل بعد، وكان اعتماد الناس على الفانوس أو الأتريك، بعد ذلك بمدة قام ميسوري الحال من الأهالي بشراء مولدات كهربائية تضيء ليلاً فقط، ولم تأت شركة الكهرباء إلا في بداية القرن الحالي.
وصلت طلائع الطّفرة إلى العُرْضِيّات في نهاية التسعينيات الهجرية، وبدأت الأوضاع تتحسن وزاد دخل الفرد، وبدأ إنسان العُرْضِيّة التعايش مع التحول، جاءت الآلات الحديثة وحوّلت الجبال التي لم تكن في الغالب إلا مكاناً للرعي إلى أراضٍ سكنية، بدأ الناس يخرجون من منازل الحجر القديمة إلى البيوت (الشعبي) المبنية بالأسمنت، تحسنت الأوضاع الاقتصادية، وكثر المال في أيدي الناس.
كانت سائر قرى العُرْضِيّة تعاني من الجدب الثقافي وقلة التعليم في بداية القرن الماضي، أما في التسعينيات فقد بدأ الكثير من الناس في تعليم أبنائهم، وانتشرت المدارس.
كثرت السيارات وافتتح المزيد من الطرق، جاءت الشركة الإيطالية (جراند لافوري) على ما أذكر، نعم كان هذا هو اسمها، وشقّت طريق العُرْضِيّات مما أحدث نقلة نوعية في المواصلات في هذه المنطقة الداخلية المنزوية.
التي نالها من الإهمال والنسيان في الماضي، بسبب انزوائها عند سفوح جبال السراوات الغربية، وبعدها لفترة طويلة عن الطرق التجارية الرئيسية التي كانت تربط الحجاز باليمن، ولأن تلك الطرق كانت تأتي محاذية للساحل، والسفوح الغربية التي تأتي العُرْضِيّة في نطاقها لا تتصل بها، بل إن التجار والحجاج والمسافرين يتجنبون العُرْضِيّة لوعورة أرضها، وشدة بأس أهلها وهذا ما سبب انعزالها ونسيانها، كما قال صاحب كتاب القول المكتوب في تاريخ الجنوب.
هذا ما استطعت تذكره من المشاهدات ولعلني في مقال قادم أتذكر أحداث أخرى وقعت في الماضي وأضع لها عنواناً يناسبها.
bnmgni@hotmail.com ** ** ** تويتر@bnmgni
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق