مقال : عبدالهادي بن مجنّي في صحيفة الجزيرة السعودية.
أشارت إحدى الوثائق العثمانية إلى أن أمير النبيعة في سنة 1289هـ هو (ابن عمار محمد) وقصد كاتب هذا العهد محمد بن عبدالله بن عمّار الذي عاش بين عامي 1245 و1310هـ. والنبيعة بلدة قديمة تقع جنوب بلاد العرضيتين، وتحديداً جنوب شرق محافظة القنفذة، حيث تبعد عنها عبر الجبال شرقاً قرابة الثمانين كيلاً، جمعت التاريخ والتراث، تشكلت من مبانٍ حجرية لا زالت حتى يومنا هذا، وسوقها القديم (أحد النبيعة) كان يقام كل يوم أحد، وقد انتقل من موضعه إلى شمال قرية القضية على الطريق العام جدة - جازان، وتتكون قرى النبيعة من أزقة مُحاطة بجدران من الحجارة، وثمانية أودية، وبها أكثر من خمسين بئراً عذبة محفورة بالأيدي منذ مئات السنين، وبها أكثر من ثلاثين برجاً وحصون قديمة لا زالت إلى اليوم، اجتمعت كلها في قرى وبلدات النبيعة ومساحتها لاتتجاوز عشرين كيلو متراً مربعة، بها عدة قرى أثرية، تتربع على ضفة وادي جفن في إقليم تهامة، وتحتضن النبيعة قرابة خمسمائة بيت حجري، وعشرين مسجدا، وبضعة مصليات، وتضم النبيعة قريتين أثريتين هما قرية مخشوشة الأثرية التي يعود تاريخ نشأتها إلى خمسة قرون حيث وقفت بها يرافقني أحد المعمرين عند أقدم موضع هناك وهو ساحة المربعة ويلفها سبعة أحياء، وتشقها دروب ضيقة متعرجة، تنتهي إلى مزارع القمح والنواشي من نخيل وسدور، والسائر في معابر وممرات تلك القرية يشم رائحة التراث والتاريخ، أما القرية الأثرية الأخرى فهي قرية الحفنة، وأبراج النبيعة وحصونها تمتاز بارتفاعها فهي عالية كان يتحصن بها الناس قديماً. ولا زال يروي لي كبار السن الذين التقيت بهم قصص الحنين إلى ماضيهم، وتلك الأيام التي يتقاطر فيها الفلاحون عند بزوغ الفجر متجهون إلى مزارعهم حاملون معهم أدوات الحراثة.
وقد داهم النبيعة كغيرها من بلدات العرضيتين سنوات عجاف، يروي المعمرون فيها قصتهم مع شظف العيش وقسوة الظروف في ذلك الزمن حينما غدت خاوية كأن لم تغن بالأمس، هاجر معظم سكانها إلى المدن المجاورة. إلا أنها اليوم عادت نظرة، تدفقت الحياة في عروقها بعد مرور الطريق العام جدة - جازان وبعد الاهتمام الذي لاقته من بلدية ثريبان وعند وصول الخدمات والحياة المدنية إليها، وقد شرفت بلدة النبيعة منذ ثلاثة عقود بزيارة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود حينما أقام له الأهالي حفل استقبال في الجهة الشمالية من النبيعة بني رزق، ومن جانب آخر استنهض شباب النبيعة أهلها كي تعود مجددا إلى خارطة التراث، وتنادى الباعة في سوقها الأحد عند تأسيسها، وسوق الأحد كان المركز الاقتصادي للنبيعة وبمثابة «البورصة « التي يبتاع فيه أهل الحاضرة وسكان القرى ما يجلبه أهل البادية من بالحارث وعمارة من المواشي ومنتجاتها والمصنوعات الجلدية، ويبادلوهم مستلزمات السفر ومستلزمات البيت من الحبال والثياب والقهوة.
وصفه الرحالة البريطاني ويلفرد ثيسجر عندما مر به قديماً بقوله: (أما سوق أحد النبيعة فهو لبني رزق).
ارتفعت أصوات المآذن في مساجدها والتي يغلب عليها الطابع المعماري الواحد لأنها بنيت في الفترة الزمنية نفسها، وأصبحت نبيعة الأمس حاضرة اليوم بنفس معالمها التاريخية، ورائحة مزارع الدخن والبياض فيها.
يغلب على اسم النبيعة «بني رزق» لأن أغلب ساكنيها من عشيرة بني رزق، يقطنون أكثر من اثني عشر موضعاً هي جفن، والبراق، والدارين، والقضية، والقرا، والخيال، والحفنه، والمنقب، وآل حويل، والحمراء، وغليفه، والكديد، ومخشوشه، والجربش. كل هذه المواقع غنية بمزارعها وتلالها الجبلية الخضراء في أوقات الشتاء والربيع، فماؤها عذب، كما أنها ثرية بحبوب الدخن والبياض والقمح، حيث كانت في الماضي تمثل سلة الغذاء بالنسبة لبلاد العرضيتين، يحدها من الغرب سلسلة جبال النبيعة التي نسبت إليها. ومما يؤسف له أن بعض المعالم الأثرية بها قد تساقطت أسقفها وجدرانها من جراء هطول الأمطار وذلك لتقادم عهدها ولعدم اهتمام الجهات المعنية، وهذا ما حرك شبابها حيث لمست من البعض منهم تطلعات وآمال كي يقوموا بترميم تلك القرى القديمة فتصبح مقصدا تراثيا بالتعاون مع بلدية ثريبان وقد شاهدت في طفولتي بعض السياح الأوروبيون يقصدون قراها القديمة ويقومون بالتجوال في الممرات وتصويرها ما يدل على أن تلك الأفكار لو جُدَّ فيها لأصبحت النبيعة مزاراً للسياح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق