مقال منشور في صحيفة الجزيرة منذ ما يقارب الثلاثة أعوام ..
مبارك بن لندن في العرضية عام 1365هـ - 1946م بإذن من جلالة الملك عبدالعزيز
لم تحظ تهامة العُرْضِيَّة بالدراسات التاريخية من قبل الرحالة العرب والرحالة الغربيين ويعود السبب في رأيي إلى صعوبة الوصول إليها لوجودها في الجزء الجبلي القريب من تهامة الحجاز والقريبة من سفوح جبال السراة في الشرق وكلما اتجهت جنوبا تصبح المعابر والطرق إليها صخرية ووعرة (1)، وإذا ما أوغلنا أكثر إلى الداخل فإننا نجدها تحيط بها الجبال، واستأثر الجزء الساحلي من تهامة بالحظ الأوفر من الدراسات التاريخية والتنقيب عن الآثار، يدلنا على ذلك مرور الرحالة العربي بن بطوطة والرحالة بن جبير ووصولهم إلى حلي في القنفذة في التاريخ القديم، ولكن بإصرار القليل من الرحالة الغربيين تمكنوا من الوصول إليها والبحث عنها لأن هذه المنطقة جزء من التراث الثقافي في جنوب الجزيرة، وذلك ما جعل لهذه الرحلة التاريخية التي قام بها الإنجليزي ويلفرد ثيسجر والشهير ب مبارك بن لندن قيمة وأهمية لندرة وصول الباحثين إليها.
في عام 1365هـ تسنى له زيارة العُرْضِيَّة، بعد حصوله على إذن من جلالة الملك عبدالعزيز وقد كان لذلك أكبر الأثر في إعطاء رحلته طابعا رسميا مكنه من الاتصال بأمير العرضية آنذاك وسهل عليه حرية التنقل والحصول على المعلومات التي كان يريدها.
المكان.. العرضية وهي إمارة تتبع للقنفذة وقد عرف بها السيد ولفرد ثسيجر بقوله: (هي المنطقة الجبلية التي تتوسط بين تهامة الشام وسفوح جبال السراة) وقد أشار إلى سبب التسمية بالعرضية الشامية والعرضية اليمانية أنه يستخدم لديهم بشكل شامل، اصطلاح الشام الذي يطلق على الشمال، واليمن على الجنوب، والجبلي على الشرق(2)، والبحري على الغرب.
وأضاف أنه يعرف سكان العرضية بالتهاميين، ويتمركزون في الأودية التي تستمد سيولها من الجبال وهذه الأودية هي وادي قنونا ووادي يبه.
وعند وصول ذلك الرحالة ورفاقه إلى شمال العرضية أورد ما نصه: (وهذه المنطقة تخص فخذاً من غامد التي يسكن معظمها في الجبال إلى الشرق من هذا الموقع، وتتناثر مزارعهم على طول وادي بطاط، حيث اكتظت ضفتاه بالزراعة التي تروى من الآبار والسيول معاً. ثم اجتزنا وادي فنونا إلى الوراء من بطاط، ودخلنا بلاد بلعريان وهي منطقة جرانيتية خصبة، يقوم على حراستها العديد من أبراج المراقبة(3). ووصلنا في اليوم التالي إلى مركز إمارة ثريبان، حيث احتفى بنا أميرها وأكرمنا، ثم سافرنا من هنا في برد الصباح، وسط حشد من القرويين المتجهين على الركائب، والجمال المحملة إلى سوق الثلاثاء الواقع على ضفتي وادي يبة، في وسط بيئة من التلال المكونة من الصخور الجرانيتية، حيث يكتظ هذا الوادي بأشجار النخيل، ورأينا هناك ثمة محاصيل ممتازة من الذرة، والسمسم، تسقى من جدول يتدفق في الوادي، حيث يقوم سوق عمارة (الذي يعقد كل يوم ثلاثاء) وعمارة قبيلة جذابة، تشبه أعراب تهامة، يشد الواحد منهم جنبية على وسطه من الأمام، أما شعورهم الطويلة، فقد زينت بنباتات ذكية الرائحة، اشتريت من السوق لهذا الغرض، ويلبس قليل من الرجال قبعات مصنوعة من الحصير، حيث تتميز بأن حوافها واسعة ومرتخية، وعندما اجتزنا الجدول، كان ثمة راع شاب، يشبه رمز الغابات أو الجمال عند الرومان، وقد ملأ بساتين النخيل بترديده لأنغام موسيقية شجية تنبعث من مزماره.
وهذه الآلة تعرف محلياً بالصفريقة المصنوعة من لحاء عروق شجر السمر) انتهى كلامه.
ومن نتائج القراءة في تاريخ هذه الرحلة يستطيع المرء أن يصل لعدة أمور، وصف المؤلف وصفاً دقيقاً لإنسان العرضية في ذلك الزمن، وتراه يرسم لنا في هذه الرحلة الجبال والأودية، وقد استشرفنا الحياة في الماضي من خلال هذا المشهد، وأسهب في وصف المباني والعمارة القديمة، بعدها ذهب للحديث عن المزارع وفلاحة الأرض، ويطلعنا على مسميات الأشجار والنباتات وأسماء الذكية الرائحة والعطرية منها والتي تنمو على سطوح المنازل المستوية وفي أوان خاصة، ثم يأخذنا معه لذلك الماضي الجميل الذي يتجلى فيما يتمتع به الأهالي من نفوس زكية يغلب عليها جانب الطيبة الفطري، ثم يطلعنا على الأسواق القديمة في تلك الفترة وأهميتها لدى السكان والجهة التي يتبع لها كل سوق منها فبني رزق النبيعة سوقهم الأحد، وبني بحير في قنونا سوقهم الأربعاء، وعمارة سوقهم الثلاثاء، وآل سليمان سوقهم الأربعاء في نخال، والجوف سوقهم الثلاثاء(4)، وبنو سهيم سوقهم الاثنين، وشمران سوقهم السبت، والعوامر سوقهم الأحد، وبنو المنتشر سوقهم الخميس في ناخس.
وقد اطلعت على بعض الرحلات التي قام بها ذلك الباحث في باقي أنحاء الجزيرة فأجده كلما توغل في إقليم معين يقوم بمقارنات بين سكان تلك الأقاليم في الملبس والمأكل مع أهالي العرضية، وألاحظ تشبيهه مباني بعض البلدان بمباني العرضية التي أسرته طيبة أهلها فهو لا زال يتذكر العرضية ويذكر سكانها. وأجد هذه الرحلة إلى تهامة التي نحن بصدد تحقيقها قد جاءت بعد رحلته الأولى التي تحدث عنها في سنة 1945م، فقال بعد أن أمضيت شهرين بين أهالي نجد المتمسكين بدينهم في شدة وصرامة، مررت سريعاً عبر تهامة ومنذ ذلك الحين، ظلت تطاردني ذكرى هذا الشعب اللبق البشوش، وبقيت هذه اللمحة الخاطفة حلماً يراودني حتى سنحت لي الفرصة في سنة 1946م، عندما اضطررت تحت وطأة حرارة الصيف إلى مغادرة الربع الخالي، والعودة مرة أخرى إلى تلك السلالة المحببة.
ولا يفوتني في نهاية هذا المقال أن أشكر الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي وما قام به من جهود ودراسات لتحقيق كتب الرحالة الغربيين التي تتناول تاريخ عسير والحجاز.
الهوامش:
1- كان ذلك في الماضي أما في وقتنا الحاضر ولله الحمد فأصبحت العرضية مرتبطة بشبكة طرق معبدة وسهلة تربطها بالسراة والساحل، وهناك الكثير من العقاب المسفلتة التي تنزل إليها من أعالي الجبال بكل يسر.
2 - جهة الشرق يطلق عليها أهل العرضية الحجازي نسبة لجبال الحجاز وليس الجبلي، ربما يكون الذي قد زود الرحالة بالمعلومة قد أخطأ أو أن الخطأ كان في طباعة الترجمة.
3 - الحصون الأثرية والتي تعد اليوم رموزاً لمنطقة العرضية.
4 - الجوف منذ القدم سوقهم خميس العرق وليس الثلاثاء وقد انتقل في الوقت الحاضر وأصبح على الشارع العام ويبدو أن المؤلف التبس عليه الأمر بسبب كثرة الأسواق في المنطقة.
http://www.al-jazirah.com/104787/wo4d.htm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق